فصل: باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَابَ الْمُكَاتِبِ

باب الْمُكَاتِبِ وَنُجُومِهِ فِى كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ الآية‏.‏

وَقَالَ رَوْحٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ أَوَاجِبٌ عَلَىَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا أُرَاهُ إِلاَ وَاجِبًا‏.‏

وقال عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ‏:‏ أتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لاَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِى أَنَّ مُوسَى ابْنَ أَنَسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ‏:‏ كَاتِبْهُ، فَأَبَى فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَرأ عُمَرُ‏:‏ ‏(‏فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ فَكَاتَبَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ، أَنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِى خَمْسِ سِنِينَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

سنة الكتابة أن تكون على نجوم، تؤدى نجمًا بعد نجم، والظاهر من قول مالك أن شأن الكتابة التنجيم والتأجيل؛ لأنه قال‏:‏ لو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلاً، نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد‏.‏

وأجاز مالك والكوفيون الكتابة الحالة، وقال الشافعى‏:‏ لابد فيها من أجل، ولا يجوز على أقل من نجمين، فإن وقعت حالة أو على نجم واحد، فليست كتابة، وإنما هو عتق على صفة، كأنه قال‏:‏ إذا أديت إلىّ كذا وكذا فأنت حر، والحديث يدل أن النجوم فى الكتابة تجوز قليلة كانت أو كثيرة، وأنه ليس فى ذلك حد لا يتجاوز، ولو كان قول الشافعى صحيحًا أن الكتابة لا تجوز على أقل من نجمين؛ لجاز لغيره أن يقول‏:‏ لا تجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأن أقل النجوم التى كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بريرة، وعلم بها وحكم فيها، كانت خمسة، وكان صواب الحجة أولى‏.‏

وأيضًا فإن النجم الثالث لما لم يكن شرطًا فى صحة الكتابة بإجماع، فكذلك النجم الثانى؛ لأن كل واحد منهما له مدة يتعلق بها تأخير مال الكتابة، فإذا لم يكن أحدهما شرطًا وجب أن لا يكون الآخر كذلك، ولما أجمعوا أنه لو قال له‏:‏ إن جئتنى من المال بكذا إلى شهر أنه جائز وليس بكتابة، فكذلك ما أشبهه من الكتابة‏.‏

وقد احتج بقوله عليه السَّلام فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏وعليها خمس أواق نجمت عليها فى خمس سنين‏)‏، من أجاز النجامة فى الديون كلها، على أن يقول‏:‏ فى كل شهر كذا، وفى كل عام كذا، ولا يقول‏:‏ فى أول الشهر، ولا فى وسطه، ولا فى آخره؛ لأنه لم يذكر فى الحديث فى أى وقت يحل النجم فيه، ولم ينكر النبى عليه السَّلام ذلك‏.‏

وأبى هذا القول أكثر الفقهاء، وقالوا‏:‏ لابد أن يذكر أى شهر من السنة يحل النجم فيه، أو أى وقت من الشهر يحل النجم فيه، فإن لم يذكر ذلك فهو أجل مجهول لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع إلا إلى أجل معلوم، ونهى عن حبل الحبلة، وهو نتاج النتاج‏.‏

وليس تقصير من قصر عن نقل هذا المعنى فى حديث بريرة بصائر لتقرر هذا المعنى عندهم‏.‏

واختلف العلماء فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، فذهب مالك، والكوفيون، والشافعى، إلى أن الكتابة ليست بواجبة على السيد، ولكنها مستحبة إذا سأله العبد، وروى عن عطاء ومسروق أن الكتابة واجبة، وهو قول أهل الظاهر، وقالوا‏:‏ هو مذهب عمر بن الخطاب؛ لأنه ضرب أنسًا حين سأله مولاه سيرين الكتابة، فأبى أن يكاتبه، وقرأ عمر‏:‏ ‏(‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وحجة الجماعة أنه قد انعقد الإجماع على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة لا تصح إلا عن تراض‏.‏

واختلفوا فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ الخير المال، وقال عطاء‏:‏ هو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إن ترك خيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الخير المال والأداء‏.‏

وقال الحسن والنخعى‏:‏ هو الدين والأمانة‏.‏

وقال مالك‏:‏ سمعت بعض أهل العلم يقولون‏:‏ هو القوة على الاكتساب والأداء، وعن الليث نحوه، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له، فيبعثه على السؤال، وقال‏:‏ يطعمنى أوساخ الناس، وعن سلمان مثله‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقول من قال‏:‏ إنه المال، لا يصح عندنا؛ لأن العبد نفسه مال لمولاه، فكيف يكون له مال‏؟‏ والمعنى عندنا‏:‏ أن علمتم فيهم الدين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة، والصدق فى المعاملة فكاتبوهم‏.‏

واختلفوا فى قوله‏:‏ ‏(‏وآتوهم من مال الله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أن ذلك على الندب والحض، أن يضع الرجل عن عبده من أجر كتابته شيئًا مسمى، وذهب الشافعى وأهل الظاهر إلى أن الإيتاء للعبد واجب، وقول الجمهور أولى؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر موالى بريرة بإعطائها شيئًا، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة، ولو كان الإيتاء واجبًا لكان مقدرًا كسائر الواجبات، حتى إذا امتنع السيد من حطه عنه وادعاه عليه عند الحاكم‏.‏

فأما دعوى المجهول، فلا يحكم بها، ولو كان الإيتاء واجبًا، وهو غير مقدر؛ لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقى بعد الحطيطة، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة، وذلك لا يجوز، وكان النخعى يذهب فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏وآتوهم من ماله الله الذى آتاكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، أنه خطاب للموالى وغيرهم، وقاله الثورى‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وهذا حسن من التأويل حض الناس جميعًا على معاونة المكاتبين لكى يعتقوا‏.‏

باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ وَمَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِى كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ‏:‏ ارْجِعِى إِلَى أَهْلِكِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أن أَقْضِىَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِى فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا، وَقَالُوا‏:‏ إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، وَيَكُونَ لَنَا وَلاَؤُكِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ابْتَاعِى فَأَعْتِقِى، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ شَرط، فَشَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ‏)‏‏.‏

وترجم له بَاب ‏(‏اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ‏)‏، وقالت فيه‏:‏ فإِنِّى كَاتَبْتُ أَهْلِى عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِى كُلِّ عَامٍ أَوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِى‏.‏

وترجم له بَاب ‏(‏بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِىَ‏)‏، وقالت عائشة‏:‏ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ‏.‏

وقال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ‏:‏ مَا بَقِىَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ‏.‏

وقال ابْنُ عُمَرَ‏:‏ هُوَ عَبْدٌ وَإِنْ مَاتَ، وإِنْ عَاشَ، وَإِنْ جَنَى مَا بَقِىَ عَلَيْهِ شَىْءٌ‏.‏

وترجم له بَاب ‏(‏إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ‏:‏ اشْتَرِنِى وَأَعْتِقْنِى، فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ قَالَتِ بريرة‏:‏ اشْتَرِينِى وَأَعْتِقِينِى، قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، قَالَتْ‏:‏ لاَ يَبِيعُونِى حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِى، فَقَالَتْ‏:‏ لاَ حَاجَةَ لِى بِذَلِكَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

أجمع العلماء أن من شرط ما لا يجوز فى السنة أنه لا ينفعه شرطه ذلك، وأنه مردود فى بيع كان الشرط، أو عتق، أو غير ذلك من الأحكام؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يخص شيئًا دون غيره، بل عم الأشياء كلها فى حديث بريرة، وقد تقدم اختلافهم فى جواز البيع والشرط فى كتاب البيوع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كل شرط ليس فى كتاب الله‏)‏، معناه فى حكم الله وقضائه من كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، فهو باطل‏.‏

وفى حديث بريرة دليل على اكتساب المكاتب المال بالسؤال، وأن ذلك طيب لمولاه، وهذا يرد على من قال، هو قول ابن عمر‏:‏ ذلك أوساخ الناس؛ لأن ما طاب لبريرة أخذه طاب لسيدها أخذه منها، اعتبارًا باللحم الذى كان عليها صدقة، وللنبى صلى الله عليه وسلم هدية، واعتبارًا أيضًا بجواز معاملة الناس للسائل، وقد تأول قوم من العلماء فى قوله‏:‏ ‏(‏وفى الرقاب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏، أنه يجوز للمكاتبين أخذ الزكاة المفروضة، فكيف بالتطوع‏.‏

واتفق مالك، والكوفيون، والشافعى، على جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه، وقد روى عن مالك كراهة ذلك أيضًا، وكرهه الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، ومما يدل على جواز سعى المكاتب وسؤاله أن بريرة ابتدأت بالسؤال، ولم يقل النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لها مال أو عمل أو كسب، ولو كان واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بعث معلمًا عليه السَّلام وهذا يدل أن من تأول فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن علمتم فيهم خيرًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، أن الخير المال، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة، وقد يكتسب بالسؤال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اشترطى لهم الولاء‏)‏، أى أظهرى لهم حكم الولاء وعرفيهم، والاشتراط هو الإظهار، ومنه أشراط الساعة ظهور علاماتها‏.‏

وقال الداودى وغيره‏:‏ لم يقل لها الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشترطى لهم الولاء، إلا بعد التقدم إليهم وإعلامهم أن الولاء كالنسب، لا يباع ولا يوهب، ومعناه اشترطى لهم الولاء، فإن اشتراطهم إياه بعد علمهم أن اشتراطه لا يجوز غير نافع لهم‏.‏

قال غيره‏:‏ والدليل على ذلك قوله عليه السَّلام معلنًا على رءوس الناس‏:‏ ‏(‏ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست فى كتاب الله‏)‏، فإنما وبخهم بما تقرر عندهم من علم السنة فى ذلك، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق‏)‏، فكان هذا على وجه الوعيد لمن رغب عن سنته فى بيع الولاء، وليحذروا من مواقعة مثله، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوعد فى الأمر إلا بعد التقدم فيه‏.‏

قال الداودى‏:‏ وقيل‏:‏ إنما قال لها، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اشترطى لهم الولاء‏)‏، على وجه العقوبة لهم، بأن حرمهم الولاء إذ تقدموا على ذلك قبل أن يسألوه وهو بين أظهرهم، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

قال غيره‏:‏ ومن الدليل على أن النبى عليه السَّلام ربما قال الشىء أو فعله، وليس بالأفضل عنده، لما يريد من تنكيل الناس وعقوبتهم، أنه عَلَيْهِ السَّلام نهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، فواصل يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال، وقال‏:‏ ‏(‏لو تأخر لزدتكم‏)‏، كالمنكل بهم حين أبوا أن ينتهوا، ومثله قوله يوم الطائف‏:‏ ‏(‏إنا قافلون غدًا إن شاء الله‏)‏، فقال الناس‏:‏ قبل أن نفتحها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فاغدوا على القتال‏)‏، فغدوا فأصيبوا بجراحات، فقال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إنا قافلون غدًا إن شاء الله‏)‏، فسروا بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعاقب فى أمر يكون تأديبًا لمن عاقبه عليه، خطب الناس قائمًا؛ ليكون أثبت فى قلوبهم وأردع لمن أراد مثل ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن المكاتب عبد ما لم يؤد وما بقى عليه درهم، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن المسيب، والقاسم، وسالم، وعطاء، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

قال مالك‏:‏ وكل من أدركنا من أهل العلم ببلدنا يقولون ذلك‏.‏

وفيها قول آخر روى عن على بن أبى طالب‏:‏ أنه إذا أدى نصف كتابته عتق‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ لو كانت الكتابة مائتى دينار، وقيمة العبد مائة دينار، فأدى العبد المائة التى من قيمته عتق، وهو قول النحعى، وعن ابن مسعود‏:‏ إن أدى ثلث الكتابة عتق، وهو قول شريح‏.‏

وحجة الجماعة أن النبى عليه السَّلام أجاز بيع المكاتب بقوله‏:‏ ‏(‏اشتريها وأعتقيها‏)‏، فبان بذلك أن عقد الكتابة لا يوجب لها عتقًا حتى تؤدى ما انعقد عليه، وأن عتقها يتعلق بشرط الأداء‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ولا تخلو الكتابة أن تجرى مجرى العتق بالصفة، أو مجرى البيع، أو الرهن، وإن كانت تجرى مجرى العتق بالصفة، فيجب ألا يعتق إلا بعد أداء جميع الكتابة، كما لو قال له‏:‏ أنت حر إن دخلت الدار، فلا يعتق إلا بعد دخولها، وإن كان يجرى مجرى البيع، فيجب ألا يعتق أيضًا إلا بعد الأداء، كما لو باع عبدًا، فإنه لا يلزمه تسليم المبيع إلا بقبض جميع الثمن، وإن جرت مجرى الرهن فكذلك؛ لأنه لا يستحق أخذ الرهن حتى يؤدى جميع ما عليه‏.‏

وقوله‏:‏ باب إذا قال‏:‏ اشترنى وأعتقنى، فاشتراه لذلك، فاختلف فيه العلماء، فقال الأوزاعى‏:‏ لا يباع المكاتب إلا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه، وهو قول أحمد، وإسحاق‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا يجوز بيعه حتى يعجز‏.‏

وقال الداودى‏:‏ اختلف قول مالك فى فسخ الكتابة بالبيع للعتق، فقال بعض أصحابه‏:‏ كانت بريرة عجزت، وهذه دعوى من قائله وتحكم، والحديث يدل على خلافه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واختلف عن الشافعى فى هذه المسألة، فقال‏:‏ ولا أعلم حجة لمن قال‏:‏ ليس له بيع المكاتب، إلا أن يقول‏:‏ لعل بريرة عجزت‏.‏

فقال الشافعى‏:‏ وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه‏.‏

قال ابن المنذر والداودى‏:‏ وفى ترك الرسول صلى الله عليه وسلم سؤال بريرة هل عجزت أم لا‏؟‏ دليل على أن المكاتب يباع للعتق عجز أم لم يعجز‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وإذا لم يختلف أهل العلم أن للرجل أن يبيع عبده قبل أن يكاتبه، فعقده الكتابة غير مبطل ما كان له من بيعه، كما هو غير مبطل ما كان له من عتقه، ولو لم يكن له بيعه ما كان له عتقه؛ لأن بيعه إياه إزالة ملكه عنه، كما عتقه سواء‏.‏

ودل خبر عائشة فى قصة بريرة أنها بيعت بعلم النبى عليه السَّلام فلم ينكره، ومن قول عوام أهل العلم‏:‏ أن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فلم يمنع الرجل من بيع عبده الذى لو شاء أعتقه‏.‏

وخبر عائشة مستغنى به عن قول كل أحد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى قوله عليه السَّلام لعائشة‏:‏ ‏(‏اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق‏)‏، أوضح دليل على أن بريرة إذ عتقت لم تعتق عند عائشة بالتحرير الذى كان من مواليها لها عند عقد الكتابة، ولكنها عتقت بعتق كان من عائشة لها بعد ابتياعها، فلذلك كان ولاؤها لعائشة دون مواليها البائعين لها، وفى ذلك أبين البيان أن عقد الكتابة الذى كان عقد لها مواليها انفسخ بابتياع عائشة لها، وهذا يرد قول من زعم أن عائشة أرادت أن تشترى منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة، وتؤدى إليهم الثمن ليكون لها الولاء، ولو كان هذا صحيحًا لكان النكير على عائشة دون موالى بريرة؛ لأنها أرادت أن تشترى الولاء الذى نهى النبى صلى الله عليه وسلم عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما كان الإنكار على موالى بريرة؛ لأن الولاء لا يباع ولا يكون إلا للمعتق‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها، وفى ذلك دليل أنه ليس لزوجها من الكتابة، وإن كان ذلك يئول إلى فراقها إياه بغير إذنه إذا خيرت واختارت نفسها، ولما كان للسيد عتق الأمة تحت العبد، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحه، وله أن يبيع أمته من زوجها الحر، وإن كان فى ذلك بطلان زوجيتها، كان لهذا المعنى يجيز كتابتها على رغم زوجها‏.‏

وفيه‏:‏ حجة لقول مالك أن للمرأة أن تتجر بمالها من غير علم زوجها؛ لأن عائشة اشترت بريرة وأنها إنما استأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر الولاء خاصة‏.‏

وفيه‏:‏ أن للمرأة أن تعتق بغير إذن زوجها، وقد أكثر الناس فى تخريج الوجوه فى حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه، وللناس فى ذلك أوضاع، وسيأتى فى كتاب النكاح كثير من معانيه، إن شاء الله‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا والتَحْرِيضِ عَلَيْهَا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏يَا نِسَاءَ الْمُؤمنات، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ لِعُرْوَةَ‏:‏ ابْنَ أُخْتِى، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ، ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِى شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِى أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا خَالَةُ، وَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ‏؟‏ قَالَتِ‏:‏ الأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَاه‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الحض على التهادى والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهاب الشحناء، واصطفاء الجيرة، ولما فيه من التعاون على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهى أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهل على المهدى لإطراح التكليف‏.‏

وفى حديث عائشة ما كان النبى عليه السَّلام عليه من الزهد فى الدنيا، والصبر على التقلل، وأخذ البلغة من العيش، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ لأنه حمد حين خير بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وأن يكون نبيًا عبدًا، ولا يكون نبيًا ملكًا، فهذه سنته وطريقته‏.‏

وفى هذا من الفقه‏:‏ فضل التقلل والكفاف على التنعم والترفه، وفيه حجة لمن آثر الفقر على الغنى، وفيه أن من السنة مشاركة الواجد المعدم، وأن يكون الناس يشتركون فيما بأيديهم بالتفضل من الواجد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا نساء المؤمنات‏)‏، على غير الإضافة، تقديره‏:‏ يا أيها النساء المؤمنات، ومثله‏:‏ يا رجال الكرام، فالمنادى هاهنا محذوف وهو أيها، والنساء فى تقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء‏.‏

وحكى سيبويه‏:‏ يا فاسق الخبيث، ومذهبه فيه أن فاسق وشبهه معرف بياء، كتعريف زيد بياء فى النداء، وكذلك يا نساء هنا مخرج على مذهبه أن يجوز نصب نعته، كما جاز يا زيد العاقل، فنصب العاقل، فيجوز على هذا يا نساء المؤمنات‏.‏

وأما من روى‏:‏ ‏(‏يا نساء المؤمنات‏)‏، على الإضافة ونصب النساء، فيستحيل أن تكون المؤمنات هاهنا من صفات النساء؛ لأن الشىء لا يضاف إلى نفسه، وإنما يضاف إلى غيره مما يبينه به ويضمه إليه، ومحال أن يبينه بنفسه أو يضمه إليها، هذا مذهب البصريين‏.‏

وقد أجاز الكوفيون إضافة الشىء إلى نفسه، واحتجوا بآيات من القرآن تتخرج معانيها على غير تأويلهم، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولدار الآخرة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏، و‏)‏ دين القيمة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال الزجاج وغيره‏:‏ معناه دار الحال الآخرة؛ لأن للناس حالين، حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله صلاة الأولى، والمراد صلاة الفريضة الأولى، والسعة الأولى؛ لأنها أول ما فرض من الصلوات، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دين القيمة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ دين الملة القيمة، ولهذا وقع التأنيث، لكنه يخرج ‏(‏يا نساء المؤمنات‏)‏ على تقدير بعيد، وهو أن تجعل المؤمنات نعتًا لشىء محذوف غير النساء، كأنه قال‏:‏ يا نساء الأنفس المؤمنات، والمراد بالأنفس الرجال، وفيه بُعْدٌ لفساد المعنى؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما خاطب النساء بذلك على وجه الفضيلة لهن والتخصيص، وعلى هذا الوجه، لا فضيلة لهن فى ذلك، إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معًا، فيكون تقديره‏:‏ يا نساء من الأنفس المؤمنات، على تقدير إضافة البعض إلى الكل، كما تقول‏:‏ أخذت دراهم مال زيد، ومال واقع على الدراهم وغيرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولو فرسن شاة‏)‏، أصل الفرسن للإبل، وهو موضع الحافر من الفرس، ويقال لموضع ذلك من البقر والغنم‏:‏ الظلف‏.‏

وقال الأصمعى‏:‏ الفرسن ما دون الرسغ من يدى البعير، وهى مؤنثة، والجمع الفراسن‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ إنما الفرسن للبعير، فاستعير للشاة، وأنشد فى مثله‏:‏

أشكو إلى مولاى من مولاتى *** تربط بالحبل أكيرعاتى

فاستعار الأكارع للإنسان، كما استعار الفرسن للشاة‏.‏

باب الْقَلِيلِ مِنَ الهَديِةِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ‏)‏‏.‏

هذا حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتحاب، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئًا مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المهدى، وإنما أشار بالكراع وفرسن الشاة إلى المبالغة فى قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفرسن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك‏.‏

باب مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ‏:‏ قَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اضْرِبُوا لِى مَعَكُمْ سَهْمًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلٍ، قال النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم للمرأة الأنصارية‏:‏ ‏(‏مُرِى غلامك النَّجَار، يَعْمَلْ لى أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا، حَتَّى نَفِذَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ‏.‏

استيهاب الصديق الملاطف حسن إذا علم أن ما يستوهبه تطيب به نفسه، ويسر بهبته، ويبين هذا أنه قد جاء فى حديث آخر أن المرأة الأنصارية كانت تطوعت للنبى صلى الله عليه وسلم وسألته أن تصنع له المنبر، وكانت وعدته بذلك، وإنما قال، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اضربوا لى معكم سهمًا‏)‏ فى الغنم التى أخذوا فى الرقية بفاتحة الكتاب، وقال فى لحم الصيد‏:‏ ‏(‏هل معكم منه شىء‏)‏، ليؤنسهم لما تحرجوا من أكله بأن يريهم حله عيانًا بأكله منه‏.‏

ومن هذا الحديث، قال بعض الفقهاء‏:‏ إن المآكل إذا وردت على قوم دون مجالسيهم أنهم مندوبون إلى مشاركتهم‏.‏

باب مَنِ اسْتَسْقَى

وَقَالَ سَهْلٌ‏:‏ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسْقِنِى‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ أَتَانَا النَّبِىّ عليه السَّلام فِى دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِىٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الأَعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏الأَيْمَنُونَ، الأَيْمَنُونَ، أَلاَ فَيَمِّنُوا‏)‏، قَالَ أَنَسٌ‏:‏ فَهِىَ سُنَّةٌ، ثَلاَثًا‏.‏

هذا مثل الباب الذى قبله، لا بأس بطلب ما يتعارف الناس بطلب مثله من شرب الماء واللبن، وما تطيب به النفس، ولا يتشاح فيه، ولاسيما أن زمن النبى صلى الله عليه وسلم زمن مكارمة ومشاركة، وقد وصفهم الله أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم، وإنما أعطى الأعرابى ولم يستأذنه كما استأذن الغلام؛ ليتألفه بذلك لقرب عهده بالإسلام‏.‏

وفيه‏:‏ أن السنة لمن استسقى أن يسقى من على يمينه، وإن كان من على يساره أفضل ممن جلس على يمينه، ألا ترى قول أنس‏:‏ فهى سنة ثلاث مرات، وذلك يدل على تأكيدها، وقد تقدم بيان هذا المعنى فى كتاب الأشربة‏.‏

باب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ

وَقَبِلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِى قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ - وفيه‏:‏ أَنَس، أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلىّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا، أَوْ فَخِذَيْهَا، قَالَ‏:‏ فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ، فَقَبِلَهُ، قُلْتُ‏:‏ وَأَكَلَ مِنْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ‏:‏ قَبِلَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَ أَنَّا حُرُمٌ‏)‏‏.‏

قول شعبة‏:‏ قوله‏:‏ فخذيها لا شك فيه، دليل أنه شك فى الفخذين أولاً ثم استيقن، وكذلك شك آخرًا فى الأكل، فأوقف حديثه على القبول، وقبول هدية الصيد وغيره هى السنة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لو أهدى إلىّ كراع أو ذراع لقبلته‏)‏‏.‏

وفى رد النبى صلى الله عليه وسلم الحمار على الصعب بن جثامة وهو محرم دليل على أنه لا يجوز قبول ما لا يحل من الهدية؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما رده عليه لأنه لا يحل له قتل الصيد وهو محرم، وكان الحمار حيًا، فدل هذا أن المهدى إذا كان معروفًا بكسب الحرام، أو بالغصب والظلم، فإنه لا يجوز قبول هديته‏.‏

وفيه الاعتذار إلى الصديق، وإذهاب ما يخشى أن يقع بنفسه من الوحشة وسوء الظن، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب الحج وما للعلماء فيه، وكذلك تقدم حديث أنس فى كتاب الصيد وتفسير أنفَجْنَا‏.‏

باب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ، خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السلام، أَقِطًا وَسَمْنًا وَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىّ عليه السَّلام إِذَا أُتِىَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ‏:‏ ‏(‏أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ‏؟‏‏)‏، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ صَدَقَةٌ، قَالَ لأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏كُلُوا‏)‏، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَدِيَّةٌ، ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلَ مَعَهُمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أُتِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ، فَقِيلَ‏:‏ تُصُدِّقَ به عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏عِنْدَكُمْ شَىْءٌ‏؟‏‏)‏، قَالَتْ‏:‏ لاَ، إِلاَ شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا‏)‏‏.‏

قد روى عن مالك فى حديث الضب أن النبى عليه السَّلام أمر ابن عباس، وخالد ابن الوليد بأكل الضب فى بيت ميمونة، فقالا له‏:‏ ألا تأكل يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنى يحضرنى من الله حاضرة، يعنى الملائكة الذين يناجيهم، ورائحة الضب ثقيلة‏)‏، فلذلك تقذره عليه السَّلام خشية أن يؤذى الملائكة بريحه‏.‏

فى هذا من الفقه أنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه لقلة عادته بأكله ولذمه، وإنما كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، وأخذ الصدقة منزلة ضعة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏، والأنبياء منزهون عن منازل الضعة والذلة، وأيضًا فلا تحل الصدقة للأغنياء، وقد عدد الله على نبيه أنه وجده عائلاً فأغناه، فلهذا كله حرمت عليه الصدقة‏.‏

وقوله فى لحم بريرة‏:‏ ‏(‏هو لها صدقة ولنا هدية‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏قد بلغت محلها‏)‏، فإن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك؛ لصحة ملكه لها، فلما أهدتها بريرة إلى بيت مولاتها عائشة حلت لها وللنبى صلى الله عليه وسلم، وتحولت عن معنى الصدقة لملك المتصدق عليه بها، ولذلك قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏وهى لنا من قبلها هدية، وقد بلغت محلها‏)‏، أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية؛ لأن الهدية جائز أن يثيب عليها بمثلها وأضعافها على المعهود منه عليه السَّلام وليس ذلك شأن الصدقة، وقد تقدمت هذه المعانى فى موضع آخر‏.‏

باب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِى، وكان نِسَاءَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم حِزْبَيْنِ‏:‏ حِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ النَّبِىّ عليه السَّلام وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا‏:‏ كَلِّمِى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ، يَقُولُ‏:‏ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا ثلاثًا، فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ‏:‏ مَا قَالَ لِى شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا‏:‏ كَلِّمِيهِ، فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَقَالَ لَهَا‏:‏ ‏(‏لاَ تُؤْذِينِى فِى عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْوَحْىَ لَمْ يَأْتِنِى وَأَنَا فِى ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلاَ عَائِشَةَ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَقُلت‏:‏ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ‏:‏ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى ابنةِ أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا بُنَيَّةُ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ‏؟‏‏)‏، فَقَالَتْ‏:‏ بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ‏:‏ ارْجِعِى إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِى بِنْتِ ابْنِ أَبِى قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِىَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ‏:‏ فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أنه ليس على الرجل حرج فى إيثار بعض نسائه بالتحف والطرف من المأكل، وإنما يلزمه العدل فى المبيت والمقام معهن، وإقامة نفقاتهن وما لابد منه من القوت والكسوة، وأما غير ذلك فلا، وفيه تحرى الناس بالهدايا أوقات المسرة ومواضعها من المهداة إليه؛ ليزيد بذلك فى سروره، وفيه أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن، ولا يميل مع بعضهن على بعض، كما سكت النبى صلى الله عليه وسلم حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال آخرًا‏:‏ ‏(‏إنها بنت أبى بكر‏)‏، ففى هذا إشارة إلى التفضيل بالشرف والفهم‏.‏

باب مَا لاَ يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّةِ

- فيه‏:‏ أَنَس، كان لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لاَ يَرُدُّهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كان النبى صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب من أجل أنه كان يلازمه لمناجاته الملائكة، ولذلك كان لا يأكل الثوم وما شاكله، وفى هذا الحديث دليل أن من الهدايا ما يرد لعلة، إذا كان لذلك وجه، وأن الطيب لا وجه لرده؛ لأنه من المباحات المستحسنات، وقد قال، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏حُبِّبَ إلىّ من الأشياء النساء والطيب‏)‏‏.‏

باب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً

- فيه‏:‏ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَر، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ، قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّى رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ هبة الشىء الغائب جائزة عند العلماء، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وفيه أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان فى ذلك مصلحة واستئلاف‏.‏

باب الْمُكَافَأَةِ فِى الْهَدِيَّةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ الهدية على ضربين‏:‏ فهدية للمكافأة، وهدية للصلة والجوار، فما كان للمكافأة كان على سبيل البيع وطريقه، ففيه العوض، ويجبر المهدى إليه على سبيل العوض، وما كان لله أو للصلة، فلا يلزم عليه مكافأة، وإن فعل فقد أحسن‏.‏

وقد اختلف الفقهاء فيمن وهب هبة ثم طلب ثوابها، وقال‏:‏ إنما أردت الثواب، فقال مالك‏:‏ ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له، فله ذلك، مثل الفقير للغنى، وهبة الغلام لصاحبه، وهبة الرجل لأميره، ومن هو فوقه، وهو أحد قولى الشافعى‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يكون له ثواب إذا لم يشترطه، وهو قول الشافعى الثانى، قال‏:‏ والهبة للثواب باطل لا تنعقد؛ لأنها بيع بثمن مجهول‏.‏

واحتج الكوفى بأن موضع الهبة التبرع، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع، وصار فى معنى المعاوضات، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة، فجعلت لفظ البيع واقعًا على ما يستحق فيه العوض، والهبة بخلاف ذلك‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لمالك أن النبى عليه السَّلام كان يقبل الهدية ويثيب عليها، والاقتداء به واجب؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وروى أن أعرابيًا أهدى إلى النبى صلى الله عليه وسلم بعيرًا، فأثابه عليه فأبى، فزاده فأبى، فقال له، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لقد هممت ألا أتهب إلا من قرشى أو دوسى‏)‏، فدل أن الهبة تقتضى الثواب، وإن لم يشترطه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم أثابه وزاده فى الثواب حتى بلغ رضا الأعرابى، ولو لم يكن واجبًا لم يثبه ولم يزده، ولو أثاب تطوعًا لم تلزمه الزيادة، وكان ينكر على الأعرابى طلبه للثواب حتى يحصل علمه هذا عند الناس‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن الهبة موضوعة للتبرع، ومخالفة للفظ البيع، فالجواب أن الهبة لو لم تقتض العوض أصلاً لكانت بمنزلة الصدقة، يقصد بها ثواب الآخرة‏.‏

والفرق بين الهبة والصدقة أن الواهب يقصد المكافأة فى الأغلب، وليست الصدقة كذلك، والفقير إذا وهب للغنى ينبغى أن يكون بمطلقه يقتضى الثواب، وإن كان الثواب مجهولاً، كقطعة الحمام والشارب والملاح، وقد جرى العرف بذلك، وأيضًا فإن الواهب دخل على أخذ العوض، وإن لم ينكره، فصار كأنه عقد معاوضة، ولنا أن نستدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 86‏]‏، فهو عام فى كل هدية وهبة، فلو أهدى له مما يتحيا به من مسموم وغيره، وطلب الثواب كان ذلك له، ووجب على المحيا أن يحيى بأحسن منها، أو يردها بأمر الله له بذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا ندب، والوجوب لا يتعلق بعوض زائد، فالجواب‏:‏ أنه ندب إلى أحسن منها، وإلا فالرد واجب لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب أنهما قالا‏:‏ إذا وهب الرجل هبة ولم يثب منها فهو أحق بها، ولا مخالف لهما فى الصحابة‏.‏

باب الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ

وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِىَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ وَقَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِى الْعَطِيَّةِ‏)‏، وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِى عَطِيَّتِهِ، وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ يَتَعَدَّى‏.‏

وَاشْتَرَى النَّبِىُّ عليه السَّلام مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ النُّعْمَانِ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النّبِىّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ إِنِّى نَحَلْتُ ابْنِى هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ‏؟‏‏)‏، قَالَ‏:‏ لاَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأرْجِعْهُ‏)‏، وقد ذكره البخارى فى كتاب الشهادات، وقال فيه‏:‏ ‏(‏لا أشهد على جور‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الرجل ينحل بعض ولده دون البعض، فكرهه طاوس، وقال‏:‏ لا يجوز ذلك، ولا رغيف محرق، وهو قول عروة، ومجاهد، وبه قال أحمد، وإسحاق، قال إسحاق‏:‏ فإن فعل فالعطية باطلة، وإن مات الناحل فهو ميراث بينهم‏.‏

واحتجوا بأن النبى عليه السَّلام رد عطية النعمان، وقال له‏:‏ ‏(‏اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم‏)‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏لا أشهد على جور‏)‏، وأجاز ذلك مالك فى الأشهر عنه، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وإن كانوا يستحبون أن يسوى بينهم ذكرانًا كانوا أو إناثًا‏.‏

وقال عطاء وطاوس‏:‏ يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قسم الله بعد موته، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وقال سحنون‏:‏ إذا تصدق بجل ماله ولم يكن فيما استبقى ما يكفيه، ردت صدقته، وإن أبقى من ذلك ما يكفيه جازت صدقته‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ لم يكن لبشير مال غير الغلام الذى نحله ابنه‏.‏

ومن حجة الذين أبطلوا ذلك أن إعطاء بعضهم دون بعض يؤدى إلى قطع الرحم والعقوق، فيجب أن يكون محرمًا ممنوعًا منه؛ لأنه لا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يحث على صلة الرحم ويجيز ما يؤدى إلى قطعها، قالوا‏:‏ وقد كان النعمان وقت ما نحله أبوه صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره عن القبض، فلما قال له، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ اردده، بعدما كان فى حكم ما قبض، دل على أن النحل لبعض ولده لا ينعقد ولا يملكه المنحول‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومن حجة الذين أجازوا التفضيل أن حديث النعمان لا دليل فيه على أنه كان حينئذ صغيرًا، ولعله كان كبيرًا لم يكن قبضه، وقد روى الحديث على غير هذا المعنى، روى داود بن أبى هند، عن الشعبى، عن النعمان، أن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏أكُلَّ ولدك نحلته مثل هذا‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏أيسرك أن يكونوا لك فى البر سواء‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏فأشهد على هذا غيرى‏)‏، فهذا خلاف ما فى الحديث الأول، وهذا القول لا يدل على فساد العقد الذى عقد للنعمان؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد يتوقى فى الشهادة على ماله أن يشهد عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أشهد على هذا غيرى‏)‏، دليل على صحة العقد، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالتسوية بينهم ليستووا جميعًا فى البر، وليس فى شىء من هذا فساد العقد على التفضيل، فكان كلام النبى صلى الله عليه وسلم إياه على طريق المشورة، وعلى ما ينبغى أن يفعل عليه الشىء إن آثر فعله‏.‏

وكان عَلَيْهِ السَّلام إذا قسم شيئًا بين أهله سوى بينهم جميعًا، وأعطى المملوك كما يعطى الحر، ليس ذلك على أنه واجب، لكنه أحسن من غيره، وقد روى معمر، عن الزهرى، عن أنس، قال‏:‏ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فجاء ابن له، فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت ابنة له، فأجلسها إلى جنبه، قال‏:‏ ‏(‏فهلا عدلت بينهما‏)‏، أفلا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد منه التعديل بين البنت والابن، وألا يفضل أحدهما على الآخر‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا أشهد على جور‏)‏، يدل على أن إعطاء بعضهم لا يجوز‏.‏

قيل‏:‏ ليس قوله ذلك بأشد من قوله‏:‏ ‏(‏فارجعه‏)‏، وهذا يدل على أن العطية قد لزمت وخرجت عن يده، ولو لم تكن صحيحة لم يكن له أن يرتجع؛ لأنها ما مضت ولا صحت فيرتجع، فأمره بذلك لأن المستحب والمسنون التسوية‏.‏

ولما أجمعوا على أنه مالك لماله، وأن له أن يعطيه من شاء من الناس، كذلك يجوز أن يعطيه من شاء من ولده، والدليل على جواز ذلك أن أبا بكر الصديق نحل ابنته عائشة دون سائر ولده، ونحل عمر ابنه عاصمًا دون سائر ولده، ونحل عبد الرحمن بن عوف ابنته أم كلثوم ولم ينحل غيرها، وأبو بكر وعمر إمامان، وعبد الرحمن ومحله، ولم يكن فى الصحابة من أنكر ذلك‏.‏

والحجة على من قال‏:‏ نجعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين كالفرائض، قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أكل ولدك نحلت مثل هذا‏)‏، ولم يقل له‏:‏ هل فضلت الذكر على الأنثى‏؟‏ ولو كان ذلك مستحبًا لسأله عنه كما سأله عن التشريك فى العطية، فثبت أن المعتبر عطية الكل على التسوية‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم يكن لبشير بنت، فلذلك لم يسأله‏.‏

قيل‏:‏ قد كان للنعمان أخت لها خبر نقله أصحاب الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى قوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏اردده‏)‏ من الفقه أن للأب أن يقبض ما وهب لولده ويرجع فيه‏.‏

وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك‏:‏ له أن يرجع فى هبته وإن قبضها الولد ما لم تتغير فى يد ولده، أو سيحدث دينًا، أو تتزوج البنت بعد الهبة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ له أن يرجع فى هبته على كل حال ولم يعتبر طروء دين أو تزويجًا‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يرجع فيما وهب لولده، وحديث النعمان حجة على أبى حنيفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بالرجوع فيما وهب لابنه، فإن قال‏:‏ لم يكن قبض النعمان الهبة، فلذلك جاز لأبيه الرجوع فيها، فالجواب أن الهبة تلزم عند مالك بالقول، ولا يفتقد فى صحتها إلى القبض‏.‏

ولو كان الحكم فيها يختلف بين أن تكون مقبوضة أو غير مقبوضة، لاستعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحال وفصل بينهما، وأيضًا فإن مجيئه للنبى عليه السَّلام يشهده يدل على أنه كان أقبضه، ولو لم يقبضه لم يكن لقوله‏:‏ ‏(‏أرجعه‏)‏ معنى؛ لأنه عندكم قبل القبض لا يلزمه يرجع فيه، وليس لقوله حكم‏.‏

وحجة مالك أنه لا يرجع إن استحدث ابنه دينًا، فإنما قال ذلك؛ لأن حق الغرماء قد وجب فى مال الابن؛ لأنهم إنما داينوه على ماله، فليس للأب أن يبطل حقوق غرماء ابنه، وكذلك البنت إذا تزوجت لمالها؛ لأن الزوج له معونة فيه وكمال فى مال زوجته‏.‏

وقد قال عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لمالها‏)‏، فليس للأب أن يبطل ما وجب للزوج من الحقوق فى مال زوجته بأن يأخذ ذلك منها، وليس لغير الأب أن يقبض عند مالك وأكثر أهل المدينة، إلا أن الأم لها أن تقبض عندهم ما وهبت لولدها إذا كان أبوهم حيًا‏.‏

هذا الأشهر عن مالك، وقد روى عنه أنها لا تقبض أصلاً، ولا يجوز عند أهل المدينة أن تقبض الأم ما وهبت ليتيم من ولدها؛ لأن الهبة لليتيم على وجه القربة لله، فهى بمنزلة الصدقة عليه، ولا يجوز الرجوع فى الصدقة؛ لأنها لله، كما لا يجوز الرجوع فى العتق والوقف وأشباهه‏.‏

وعند الشافعى لا يرجع أحد فى هبته إلا الوالد والجد، وقد روى عن ابن وهب أن الجد يقبض كالأب، وعند الكوفى لا يرجع فيما وهبه لكل ذى رحم محرم بالنسب كالابن، والأخ، والأخت، والعم، والعمة، وكل من لو كان امرأة لم يحل له أن يتزوجها لأجل النسب‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى اشتراء النبى صلى الله عليه وسلم البعير من عمر وهبته لابنه دليل على ما بوب به البخارى من التسوية بين الأبناء فى الهبة؛ لأنه عَلَيْهِ السَّلام لو سأل عمر أن يهب البعير لابنه عبد الله لم يكن عدلاً بين بنى عمر، فلذلك اشتراه عَلَيْهِ السَّلام ووهبه، ولو أشار على عمر أن يهبه لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى اشتراء النبى صلى الله عليه وسلم الجمل من عمر وهبته لابنه من الفقه أن غير الأب لا تلزمه التسوية فيما يهب بعض ولد الرجل كما يلزم الأب فى ولده، لما جبل الله النفوس عليه من الغضب عند أثرة الآباء بعض بنيهم دون بعض، ولو لزمت التسوية بين الأخوة من غير الأب، كما لزمت من الأب لما وهب النبى صلى الله عليه وسلم أحد بنى عمر دون إخوته‏.‏

وقول البخارى‏:‏ ولا يشهد عليه معناه‏:‏ الرد لفعل الأب إذا فضل بعض بنيه، وأنه لا يسع الشهود أن يشهدوا على ذلك من فعل الأب إذا تبين منه الميل، كما لم يشهد الرسول على عطية بشير ابنه النعمان دون إخوته، وقال‏:‏ ‏(‏لا أشهد على جور‏)‏، فكان ذلك سنة من النبى صلى الله عليه وسلم ألا يشهد على عطية يتبين فيها الجور‏.‏

باب الإِشْهَادِ فِى الْهِبَةِ

- فيه‏:‏ النُّعْمَانَ‏:‏ أَعْطَانِى أَبِى عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ‏:‏ لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى أَعْطَيْتُ ابْنِى مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِى أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا‏؟‏‏)‏، قَالَ‏:‏ لاَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ‏.‏

الإشهاد ليس من شروط الهبة والصدقة التى لا تتم إلا بها، وإنما هو ليعلم عزيمة المتصدق على إنفاذ ما تصدق به أو وهب، ولو أن رجلاً تصدق على أحد بشىء، وحازه المتصدق عليه دون إشهاد حتى مات المتصدق، فأقر ورثته وهم بالغون بالصدقة لنفذت، وإن كان لم يشهد عليها فى الأصل عند مالك وأصحابه، وإنما الإشهاد فى الهبة كالإشهاد فى البيع والعتق ليعلم ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن للإمام إذا عرف من الواهب هروبًا من بعض الورثة أن يرد ذلك؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏فأمرتنى أن أشهدك‏)‏، وأنها لم ترض حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على هروبه بماله عن سائر بنيه؛ لأن فى بعض طرق الحديث‏:‏ ‏(‏لا أشهد على جور‏)‏، وكان معروفًا بالميل إلى تلك المرأة‏.‏

باب هِبَةِ الرَّجُلِ لامْرَأَتِهِ، وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا

وقَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏

قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ جَائِزَةٌ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ‏:‏ لاَ يَرْجِعَانِ‏.‏

وَاسْتَأْذَنَ النَّبِىُّ عليه السَّلام نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ‏)‏‏.‏

وقال الزُّهْرِىُّ فِيمَنْ قَالَ لامْرَأَتِهِ‏:‏ هَبِى لِى بَعْضَ صَدَاقِكِ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَ يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا، فَرَجَعَتْ فِيهِ، قَالَ‏:‏ يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِى شَىْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ‏.‏

قَالَ الله‏:‏ ‏(‏فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَة، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْعَائِدُ فِى هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَقِىءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِى قَيْئِهِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الزوجين يهب كل واحد منهما لصاحبه، فقال جمهور العلماء‏:‏ ليس لواحد منهما أن يرجع فيما يعطيه للآخر، هذا قول عمر بن عبد العزيز، والنخعى، وعطاء، وربيعة، وبه قال مالك، والليث، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيها قول آخر، وهو أن لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أن يرجع فيما أعطاها، روى هذا عن شريح، والشعبى، والزهرى‏.‏

قال الزهرى‏:‏ ما رأيت القضاة إلا يقيلون المرأة فيما وهبت لزوجها، ولا يقيلون الرجل فيما وهب لامرأته‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سليمان الشيبانى، قال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت‏.‏

والقول الأول أحسن لقوله‏:‏ ‏(‏فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏، وروى عن على ابن أبى طالب، أنه قال‏:‏ إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم، ويشترى بها عسلاً، ويأخذ من ماء السماء فيتداوى به، فيجمع هنيئًا مريئًا وماء مباركًا، فلو كان لهن فيه رجوع لم يكن هنيئًا مريئًا، ألا ترى أن ما وهبه أزواج النبى صلى الله عليه وسلم له من أيامهن ولياليهن، وأن يمرض فى بيت عائشة، لم يكن لهن فيه رجوع؛ لأنه كان عن طيب نفس منهن، لا عن عوض‏.‏

واختلفوا فيما وهب أحد الزوجين لصاحبه، هل يحتاج إلى حيازة وقبض‏؟‏ فقال ابن أبى ليلى والحسن البصرى‏:‏ الصدقة جائزة وإن لم يقبضها‏.‏

وقال النخعى وقتادة‏:‏ ليس بين الزوجين حيازة‏.‏

وقال ابن سيرين، وشريح، ومسروق، والشعبى‏:‏ لابد فى ذلك من القبض، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وهى رواية أشهب عن مالك‏.‏

قال مالك‏:‏ إن ما وهب الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها وهو فى أيديهما كما كان، إنه حوز ضعيف لا يصح، وله قول آخر، روى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية فى الرجل يهب لامرأته خادمًا ولا يخرجها عن البيت الذى هما فيه، ويهبها دارًا يسكناها، أو تهب له ذلك، أن ذلك جائز للمرأة‏.‏

وروى عيسى، عن ابن القاسم فى الرجل يهب لامرأته دارًا يسكناها، ثم يسكنان بعد ذلك فيها، أو المرأة تفعل مثل ذلك، ففرق بينهما، قال‏:‏ إذا كان الزوج الواهب فالصدقة غير تامة؛ لأن عليه أن يسكن زوجته، فكأنه هو مسكنها، فإذا كانت المرأة الواهبة فالصدقة جائزة؛ لأنه يسكن ما حوزه لنفسه‏.‏

باب هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ

فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً، فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِىَ مَالٌ إِلاَ مَا أَدْخَلَ عَلَىَّ الزُّبَيْرُ، فَأَتَصَدَّقُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏تَصَدَّقِى، وَلاَ تُوعِى فَيُوعَى اللَّه عَلَيْكِ‏)‏‏.‏

- وقال مرة‏:‏ ‏(‏أَنْفِقِى وَلاَ تُحْصِى، فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مَيْمُونَةَ زوج النّبِىّ، أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَأْذِنِ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِى يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ‏:‏ أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّى أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَفَعَلْتِ‏؟‏‏)‏، قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏

اختلف العلماء فى المرأة المالكة لنفسها الرشيدة ذات الزوج، فقالت طائفة‏:‏ لا فرق بينها وبين البالغ من الرجال، فما جاز من عطايا الرجل البالغ الرشيد جاز من عطائها، هذا قول سفيان الثورى، والشافعى، وأبى ثور، وأصحاب الرأى، وروينا معنى ذلك عن عطاء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وبه نقول‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز لها أن تعطى من مالها شيئًا بغير إذن زوجها‏.‏

روى هذا القول عن أنس بن مالك، وهو قول طاوس والحسن البصرى، وقال مالك‏:‏ لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلا ثلث مالها خاصة، قياسًا على الوصية‏.‏

وقال الليث‏:‏ لا يجوز عتق المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا فى الشىء اليسير الذى لابد لها منه فى صلة الرحم أو غيره، مما يتقرب به إلى الله‏.‏

وحجة القول الأول أن الله تعالى سوى بين الرجال والنساء عند بلوغ الحلم وظهور الرشد، فقال‏:‏ ‏(‏فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، فأمر بدفع أموالهم إليهم، ولم يخص رجلاً من امرأة، فثبت أن من صح رشده صح تصرفه فى ماله بما شاء، وقال‏:‏ ‏(‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ الآية، فأباح للزوج ما طابت له به نفس امرأته، وقال‏:‏ ‏(‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ‏(‏إلى‏)‏ إلا أن يعفون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏

فأجاز عفوها عن مالها بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد، فدل ذلك على جواز أمر المرأة فى مالها، وعلى أنها فيه كالرجل سواء، واحتجوا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء بالصدقة، ولم يأمرها باستئذان الزبير، وأن ميمونة أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبى صلى الله عليه وسلم، وبحديث ابن عباس أنه عليه السَّلام خطب النساء يوم عيد، وقال لهن‏:‏ ‏(‏تصدقن ولو من حليكن‏)‏، وليس فى شىء من الأخبار أنهن استأذن أزواجهن، ولا أنه عَلَيْهِ السَّلام أمرهن باستئذانهم‏.‏

ولا يختلفون فى أن وصاياها من ثلث مالها جائزة كوصايا الرجل، ولم يكن لزوجها عليها فى ذلك سبيل ولا أمر، وبذلك نطق الكتاب، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصين بها أو دين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏، فإذا كانت وصاياها فى ثلث مالها جائزة بعد وفاتها، فأفعالها فى مالها فى حياتها أجوز، والحجة لطاوس حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبى عليه السَّلام قال‏:‏ ‏(‏لا تجوز عطية امرأة فى مالها إلا بإذن زوجها‏)‏، فأحاديث هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب‏.‏

وتأول مالك فى الأحاديث التى جاءت عن النبى عليه السَّلام أنه أمر النساء بالصدقة، إنما أمرهن بإعطاء ما ليس بالكثير المجحف بغير إذن أزواجهن؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لمالها ودينها وجمالها‏)‏، فسوى بين ذلك، فكان لزوجها فى مالها حقًا، فلم يكن لها أن تتلفه إلا بإذنه‏.‏

وعلى هذا يصح الجمع بين حديث عمرو بن شعيب وسائر الأحاديث المعارضة له، فيكون حديث عمرو بن شعيب واردًا فى النهى عن إعطاء الكثير المجحف، وتكون الأحاديث الواردة بحض النساء على الصدقة فيما ليس بالكثير المجحف، والله الموفق‏.‏

وأما حديث هبة سودة يومها لعائشة، فليس من هذا الباب فى شىء؛ لأن للمرأة الشفيقة أن تهب يومها لضرتها، وإنما السفه فى إفساد المال خاصة‏.‏

واختلفوا فى البكر إذا تزوجت متى تكون فى حال من تجوز لها العطاء، فقالت طائفة‏:‏ ليس لها فى مالها أمر حتى تلد، أو يحول عليها الحول، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وعن شريح، والشعبى، وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏

وفرق أصحاب مالك بين البكر ذات الأب والوصى، وبين التى لا أب لها ولا وصى، قال ابن القاسم‏:‏ أما البكر التى لا أب لها، فلا يجوز قضاؤها فى مالها وإن عنست حتى تدخل بيتها وترضى حالها‏.‏

واختلفوا فى حد تعنيس البكر، فقال ابن وهب‏:‏ الثلاثين سنة إلى خمس وثلاثين‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ الأربعين سنة إلى الخمس والأربعين‏.‏

وقال ابن الماجشون، ومطرف فى اليتيمة التى لا أب لها ولا وصى تختلع من زوجها بشىء تهب له‏:‏ الخلع ماض، ويرد الزوج ما أخذ؛ لأنه لا يجوز لها عطاء حتى تملك نفسها ومالها، وذلك بعد سنة من ابتناء زوجها بها، أو تلد ولدًا‏.‏

وخالف هذا سحنون، فقال فى البكر تعطى زوجها بعض مالها، وذلك قبل الدخول فيملكها أمرها، أو تباريه بشىء من مالها، فقال‏:‏ إن كان لها أب أو وصى، فلا يجوز ذلك، ويلزم الزوج الطلاق، ويرد عليها ما أخذ منها، وإن كانت لا أب لها ولا وصى جاز ذلك، وهى عندى بمنزلة السفيه الذى لا وصى له، أن أموره جائزة، بيوعه، وصدقته، وهبته، ما لم يحجر عليه الإمام‏.‏

باب بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ‏؟‏

وَقَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم لميمونة حين أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا‏:‏ ‏(‏وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا‏)‏‏.‏

وفى حديث ميمونة أن صلة الأقارب أفضل من العتق، على أن العتق قد جاء فيه أن الله يعتق بكل عضو منه عضوًا منها من النار، وأن بالعتق تجاز العقبة يوم القيامة‏.‏

وفى حديث عائشة أن أقرب الجيران أولى بالصلة والبر والرعاية، وأن صلة الأقرب منهم أفضل من صلة الأبعد إذ لا يقدر على عموم جميعهم بالهدية، وقد أكد الله تعالى ذلك فى كتابه، فقال‏:‏ ‏(‏والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏، فدل هذا على تفضيل الأقرب، وقد تقدم معنى ذلك فى باب أى الجوار أقرب فى كتاب الشفعة، فأغنى عن تكراره‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ‏:‏ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِى زَمَنِ النّبِىّ عليه السَّلام هدية، وَهى الْيَوْمَ رِشْوَةٌ‏.‏

- فيه‏:‏ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِىَّ، أَنَّهُ أَهْدَى الرَسُول صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ، فَلَمَّا عَرَفَ فِى وَجْهِى كَراهية رده، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو حُمَيْد السَّاعِدِىِّ، اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنَ الأَسد، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ‏:‏ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ إِلِىّ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلاَ جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ هل يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ‏؟‏ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ‏)‏، ثُمَّ رَفَعَ يَدِهِ، حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ‏)‏ ثَلاَثًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ رد الهدية فى حديث الصعب غاية الأدب؛ لأنها لا تحل للمهدى إليه، من أجل أنه محرم، ومن حسن الأدب أن يكافأ المهدى، وربما عسرت المكافأة، فردها إلى من يجوز له الانتفاع بها أولى من تكلف المكافأة، مع أنه لو قبله لم يكن له سبيل إلى غير تسريحه؛ لأنه لا يجوز له ذبحه وهو محرم‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه لا يجوز قبول هدية من كان ماله حرامًا ومن عرف بالغصب والظلم، وقد تقدم هذا المعنى فى باب قبول هدية الصيد‏.‏

وفى حديث ابن اللتية‏:‏ أن هدايا العمال يجب أن تجعل فى بيت المال، وأنه ليس لهم منها شىء إلا أن يستأذنوا الإمام فى ذلك، كما جاء فى قصة معاذ أن النبى عليه السَّلام طيب له الهدية، فأنفذها له أبو بكر الصديق بعد النبى صلى الله عليه وسلم لما كان دخل عليه فى ماله من الفلس‏.‏

وفيه‏:‏ كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل فى معنى ذلك كراهية هدية المديان والمقارض، وكل من لهديته سبب غير سبب الجيرة أو الصداقة أو صلة الرحم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عفرة إبطيه‏)‏، قال صاحب العين‏:‏ العفرة غبرة فى حمرة، كلون الظبى الأعفر‏.‏

باب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ

وَقَالَ عَبِيدَةُ‏:‏ إِنْ مَاتَ وَقد فُصِلَتِ الْهَدِيَّةُ، وَالْمُهْدَى لَهُ حَىٌّ، فَهِىَ له، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حيًا فَهِىَ لِوَرَثَتهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتِ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الذِى أهدى‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِىَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ، إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لَوْ قَد جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلاَثًا‏)‏، فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَنِى، فَحَثَى لِى ثَلاَثًا‏.‏

اختلف العلماء فى الذى يهب أو يتصدق على رجل، ثم يموت الواهب أو المتصدق قبل أن تصل إلى الموهوب له، فذكر البخارى قول عبيدة السلمانى، وقول الحسن، وبمثل قول الحسن قال مالك، قال مالك‏:‏ إن كان أشهد عليها أو أبرزها أو دفعها إلى من يدفعها إلى الموهوب له فهى جائزة‏.‏

وفيها قول ثالث، وهو‏:‏ إن كان بعث بها المهدى مع رسوله، فمات الذى أهديت إليه، فإنها ترجع إليه، فإن كان أرسل بها مع رسول الذى أهديت إليه، فمات المهدى إليه، فهى لورثته، هذا قول الحكم، وأحمد بن حنبل، وإسحاق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا تتم الهبة إلا بقبض الموهوب له، أو وكيله، فأيهما مات قبل أن تصل الهبة إلى الموهوب له، فهى راجعة إلى الواهب، أو إلى ورثته، هذا قول الشافعى‏.‏

واختلف الفقهاء فيما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، فقال الكوفيون، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ لا يلزم من العدة شىء؛ لأنها منافع لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها‏.‏

وقال مالك‏:‏ أما العدة مثل أن يسأل الرجل أن يهب له هبة، فيقول له‏:‏ نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه، قال مالك‏:‏ ولو كان ذلك فى قضاء دين، فسأله أن يقضى عنه، فقال‏:‏ نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ إذا وعد الغرماء، فقال‏:‏ أشهدكم أنى قد وهبت لهذا من أين يؤدى إليكم‏؟‏ فإنه يلزمه، وأما أن يقول‏:‏ نعم أنا أفعل ثم يبدو له، فلا أرى ذلك‏.‏

وقال سحنون‏:‏ الذى يلزمه من العدة فى السلف والعارية، أن يقول للرجل‏:‏ اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو اخرج إلى الحج، وأنا أسلفك ما يبلغك، أو اشترى سلعة كذا أو تزوج وأنا أسلفك، ذلك كما يدخله فيه وينشئه به، فهذا كله يلزمه‏.‏

قال‏:‏ وأما أن يقول‏:‏ أنا أسلفك وأنا أعطيك بغير شىء يلزمه المأمور نفسه، فإن هذا لا يلزمه منه شىء‏.‏

قال أصبغ‏:‏ يلزمه فى ذلك كل ما وعد به‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، ألا ترى فتيا عبيدة السلمانى والحسن فى أن العدة والهبة إنما تتم إذا فصلت إلى المهدى له قبل موت الواهب والموهوب له، فى قول الحسن‏.‏

وفى قول عبيدة‏:‏ إن مات الموهوب له قبل أن تصل إليه الهبة فهى لورثة الواهب‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن قتادة، كقول الحسن، وهذا يدل من فتياهم أنهم تأولوا قوله عليه السَّلام لجابر‏:‏ ‏(‏لو قد جاء مال البحرين أعطيتك‏)‏، أنها عدة غير لازم الوفاء بها فى القضاء؛ لأنها لم تكن فصلت من عند النبى عليه السَّلام قبل موته، وإنما وعد بها جابر لو قد جاء مال البحرين، فمات عَلَيْهِ السَّلام قبل ذلك‏.‏

ولذلك ذكر البخارى قول عبيدة والحسن فى أول الباب؛ ليدل أن فعل أبى بكر الصديق فى قضائه عدات النبى صلى الله عليه وسلم بعد موته أنها كانت منه على التطوع، ولم يكن يلزم النبى صلى الله عليه وسلم ولا أبا بكر قضاء شىء منها؛ لأنه لم يرو عن أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، وإنما أنفذ ذلك الصديق بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم اقتداء بطريقة النبى صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لفعله، فإنه كان أوفى الناس بعهده وأصدقهم لوعده صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لعمر فَاشْتَرَاهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ‏:‏ ‏(‏هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ الْمِسْوَرِ، قَسَمَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ‏:‏ يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ، فَقَالَ لى‏:‏ ‏(‏ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِى، قَالَ‏:‏ فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ‏:‏ خَبَأْنَا هَذَا لَكَ، قَالَ‏:‏ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ رَضِىَ مَخْرَمَةُ‏)‏‏.‏

أما كيف يقبض المتاع والهبات عند جماعة العلماء، فبإسلام الواهب لها إلى الموهوب له، وحيازة الموهوب له، كركوب ابن عمر الجمل، كإعطاء النبى صلى الله عليه وسلم القباء لمخرمة وتلفيه بإزاره، وذكر البخارى فى كتاب الجهاد أن النبى عليه السَّلام أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدًا لمخرمة، فجاء مخرمة إلى النبى عليه السَّلام فسمع صوته فتلقاه به، واستقبله بإزراره، فقال‏:‏ يا أبا المسور، خبأت لك هذا، مرتين، وكان فى خلقه شدة‏.‏

وفى هذا من الفقه الاستئلاف لأهل اللسانة وغيرهم‏.‏

وقد اختلف العلماء فى الهبات، هل من شرطها الحيازة أم لا‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ من شرطها الحيازة لا تتم إلا بالقبض‏.‏

روى هذا عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وشريح، ومسروق، والشعبى، وإليه ذهب الثورى، والكوفيون، والشافعى، وقالوا‏:‏ ليس للموهوب له مطالبة الواهب بتسليمها إليه؛ لأنه ما لم تقبض عدة وعده بها يحسن الوفاء بها ولا يقضى بها عليه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تصح الهبة بالكلام دون القبض، كالبيع تنعقد بالكلام، روى هذا عن على وابن مسعود، وعن الحسن البصرى، والنخعى، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا‏:‏ للموهوب له المطالبة بها فى حياة الواهب، فإن مات الواهب بطلت الهبة‏.‏

ومن حجة أهل المقالة الأولى‏:‏ أن النبى عليه السَّلام قال لابن عمر، وهو راكب الجمل‏:‏ ‏(‏هو لك‏)‏، فكان حكم الهبات كلها كذلك لا تتم إلا بقبض الموهوب له‏.‏

وحجة الآخرين‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لابن عمر فى الجمل‏:‏ ‏(‏هو لك‏)‏، ملكه إياه، ولا يملك النبى صلى الله عليه وسلم شيئًا أحدًا إلا وهو مالك له ومستحقه، فكان لابن عمر المطالبة بهذا الجمل لو لم يركبه؛ لِحَقِّهِ الذى تعين فيه، فوجب له طلبه، وكذلك دل فعله عليه السَّلام فى القباء الذى تلقى به مخرمة واسترضاه به قبل سؤاله إياه، أنه قد تعين للمسور فيه حق وجب للمسور طلبه، على ما ذهب إليه مالك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا تعين فى الهبة حق للموهوب له وجبت به مطالبة الواهب فى حياته، فكذلك يجوز مطالبته به بعد مماته كسائر الحقوق‏.‏

قيل‏:‏ هذا هو القياس لولا حكم الصديق بين ظهرانى الصحابة وهم متواترون حين وهب لابنته جداد عشرين وسقًا من ماله بالغابة ولم تكن قبضته، وقال لها‏:‏ لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك ولا رد عليه، فكان هذا دليلاً لصحة قول مالك‏.‏

باب إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الآخَرُ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ قَبِلْتُ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ عليه السَّلام فَقَالَ‏:‏ هَلَكْتُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا ذَاكَ‏؟‏‏)‏، قَالَ‏:‏ وَقَعْتُ بِأَهْلِى فِى رَمَضَانَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وهو مِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ‏)‏، قَالَ‏:‏ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ‏)‏‏.‏

القبض فى الهبة هو غاية القبول، فلا يحتاج القابض أن يقول‏:‏ قبلت، وهو قد قبضها، وعلى هذا جماعة العلماء، ألا ترى إلى الواقع على أهله فى رمضان قبض من النبى صلى الله عليه وسلم المكتل من التمر، ولم يقل‏:‏ قبلته، إذ كان مستغنيًا عن ذلك بحصوله عنده، ومثل هذا المعنى فى حديث جابر حين اشترى منه النبى صلى الله عليه وسلم الجمل، فلما دفع إليه الثمن، قال‏:‏ الثمن والجمل لك، ولم يقل جابر‏:‏ قد قبلته يا رسول الله، فدل ذلك على أن الهبة تتم بإعطاء الواهب وقبض الموهوب له دون قوله باللسان‏:‏ قد قبلت، وأما إذا قال‏:‏ قبلت، ولم يقبض، فتعود المسألة إلى ما تقدم من اختلافهم فى قبض الهبة فى الباب قبل هذا‏.‏

باب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ

وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ‏:‏ هُوَ جَائِزٌ، وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ لِرَجُلٍ دَيْنَهُ، وَقَالَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ، أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ‏)‏، وَقَالَ جَابِرٌ‏:‏ قُتِلَ أَبِى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَسَأَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِى وَيُحَلِّلُوا أَبِى‏.‏

- وذكر حديث جابر هذا‏.‏

لا خلاف بين العلماء أن من كان عليه دين لرجل فوهبه له ربه أو أبره منه وقبل البراءة، أنه لا يحتاج فيه إلى قبض؛ لأنه مقبوض فى ذمته، وإنما يحتاج فى ذلك إلى قبول الذى عليه الدين؛ لأن النبى عليه السَّلام سأل غرماء أبى جابر أن يقبلوا ثمرة حائطه ويحللوه من بقية دينه، فكان ذلك إبراء لذمة أبى جابر لو رضوا بما دعاهم إليه النبى عليه السَّلام ولم يكن يعرف ذلك إلا بقولهم‏:‏ قد قبلنا ذلك ورضينا، فلم يتم التحلل فى ذلك إلا بالقول‏.‏

واختلفوا إذا وهب دينًا له على رجل لرجل آخر، فقال مالك‏:‏ تجوز الهبة إذا سلم إليه الوثيقة بالدين، وأحله فيه محل نفسه، وإن لم تكن له وثيقة، وأشهد على ذلك وأعلن، فهو جائز‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ الهبة جائزة أشهد أو لم يشهد إذا تقارا على ذلك‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى‏:‏ الهبة غير جائزة؛ لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة‏.‏

وقد تقدم فى باب كيف يقبض المتاع مذاهب العلماء فى قبض الهبات، والحجة لمالك وأبى ثور‏:‏ أنهم جعلوا الموهوب له يحل محل الواهب فى ملك الدين، ويتنزل منزلته فى اقتضائه، ولما أجمعوا أنه يجوز للرجل أن يحيل الرجل على من له دين، كذلك يجوز له أن يجعل ماله من المطالبة بدينه على رجل لرجل آخر يحله محله، وينزله منزلته، إن شاء الله، والله الموفق‏.‏